الكاتبة الصحفية زينب عتريس

كل تضارب بين العلم والخرافة، بين الحق والضلال، بين ما ينسب -زورًا- للدين من أوهام وبين ما تراه العين ويفقهه العقل، يكشف بما لا يدع مجالاً للشك أننا لم نعد بشرًا كرمهم الله بالعقول، بل أصبحنا كالأنعام، بل أضل سبيلاً.

إثبات العلم الحديث نسب الإبن لأبيه فصلًا للشك، هو أمر أصبح سهلاً يسيرًا، إلا أن التراث يأتي ليضرب عنق تلك المسألة في مقتل، ويفرض رأيه ويسود، بتعقيد نتائج الأمور بلا مبرر.

فتاة فى العشرين من عمرها، تقبل على الحياة بقلبها وروحها وترجو مستقبلاً أفضل تجد فيه ذاتها مثل كل إنسان طبيعي، إن شئت قل أحلام البسطاء والفقراء، وعلى الرغم من بساطة رجائها تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. وتطفئ فيها الأمل وتقتل فيها البراء، عن فتاة الدقهلية -ومثيلاتها- أحدثكم، لن اقول ضحية شاب مراهق لأنها في الحقيقة «ضحية مجتمع»، غاب عنه العدل والإنصاف، تعلقت المسيكنة بالمجتمع، استغاثت بالعلم، ذلك العلم الذى ينتظره العالم كله اليوم ليحقق له النجاة بالوصول للقاح أو دواء لفيروس كورونا، العلم الذي أنصفها ولم يخذلها عندما تمسكت به، أثبت أن جنينها له أب معلوم، وأن الأب مهما أنكر وجحد لن يبدل الحقائق، أقام العلم عليه الحجة، وما عهدنا العلم إلا منصفًا وعادلاً دائمًا.

لكن- وللأسف- ناصر المجتمع الظلام والجهل على العلم والنور، وقالوا وهم لا يعقلون: «الولد للفراش»، وتحملت المسيكنة جريمة الذئب الجاحد بمباركة المجتمع.

وهنا لنا وقفة.. هل من العدل والإيمان والإنسانية ما حدث ويحدث؟ هل من المعقول أن يحكمنا «غير المعقول»؟ العلم يا سادة يصرخ ويقول: «الولد ليس للفراش.. الولد لتحاليل الـDNA».

لا مفر للأم المغلوبة من ضياع حقها في اعتراف الأب بولده، فحتى لو افترضنا أنها حصلت على حكم من محكمة الأسرة يثّبت نسب الأب للطفل اعتمادًا على الوسائل  العلمية عن طريق تحليل الحمض النووي، حينها كل ما على الزوج هو استئناف الحكم، وقد تلجأ المحكمة الاستئنافية إلى الاستعانة بخبراء تجد ضالتها في مجمع البحوث التابع للأزهر، حينها سيتم فحص الملف عن طريق علماء دين- ربما لم يسمعوا يومًا عن الحمض النووي- بل سيعرجون على مجلدات الإمام النووي كمرجع  أساسي للبت بالرأي في القضية، وحينها ينتسب الطفل للفراش، بينما الأب المجرم هانئ بحياة كريمة ، بل وربما قد يفكر جليًا في تكرار نفس الفعلة مع ضحية جديدة.

أما الطفل المسكين سيخرج إلى الدنيا بلا أب، بلا حياة، فالطفل المنسوب للأم معلوم أنه «طفل السفاح»، أي أنه سيظل موصومًا بجرم لم يرتكبه، لا لشيء إلا لأنه ولد في مجتمع بائس يعتمد النقل عن كتب الأولين البالية، ويعتبر إعمال العقل انحرافًا. الطفل هنا هو الضحية، ولكن المجرم لا يُختزل في شخص الأب، بل المجتمع بكليته شريك في الجرم .

الواقع يكشف لنا موقفًا أشد مرارة وحسرة عن رجل تزوج وأسس بيته، وسافر قاصدًا الرزق ليعين نفسه على متاعب الدنيا، وبعد عشر سنوات من العناء والشقاء في غربته يكتشف أن أبناءه الثلاثة ليسوا أبناءه! لك ان تتخيل عزيزي القارئ ما ابتُلي به من صدمة كشفت له حياته الزائفة، وبعد هذا كله نجد التراث لا يرحمه، بل يريد قتله للمره الثانية، وطُلب منه أن يتعايش مع أولاد أصبح متيقنًا أنهم ليسوا أبناءه ولا من صلبه، أفلا يعتبر إقراره بهم دياثة؟ 

للأسف التراث البشري الذي يحكي لنا تاريخ قوم وآراءهم وحياتهم (عاشوا من آلاف السنين وانتهى زمانهم) يحكمنا ونحن نعيش قمة التكنولوجيا والعلم..

قال ابن قدامة: «حتى لو أن امرأة أتت بولد وزوجها غائب عنها منذ عشرين سنة لحقه ولدها».وجاء في الحديث النبوي الذي أخرجه الإمام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر».

لو حكمنا التراث في حياتنا ومستقبلنا لوجدنا تضاربًا غير منطقي، كيف إذن نقارب ونجمع بين حديث الابن للفراش وحديث لا يدخل الجنة ديوث؟ إن الضمير الإنساني والفطرة التي فطر الله الناس عليها تجعلك تحزن على كل مظلوم وتنصره، بينما الفتاوي الدينية الشاذة تدعوك لأن تظلمه وتشتت أمره وتضيع حياته.

لن تشرق الشمس على عالمنا إلا لو تمسك مجتمعنا بالعلم والمنطق، ووثق في من اخترع المضاد الحيوي الذي دخل كل بيت وعالج أهله من الأمراض والأوجاع، وشكر من اخترع الطائرة ووفر على المسلمين مسيرة أيام و شهور في مشقة السفر لأداء فريضة الحج ، ومن صنعوا الدواء لنداوي مرضانا، ومن صنعوا العربات والطائرات لترتاح بغالنا وحميرنا...

وهؤلاء هم أنفسهم من يجب أن نثق فيهم، وهم من أثبتوا أن «الولد لتحاليل الـDNA».

خذوا العلم كله ولا تحرفوه، لقد مللنا من مواعظ أهل القبور الذين عادوا العلم وحكموا على الضحية بأن تعيش فى ظلم وظلام، وأعطوا للمجرم الحياة ليفسد فيها وهو مطمئن بأنه محصن بصكوك الغفران.