يوحنا أنور داود

لا بُد أن يستجمع المُتتبع للأوضاع بمنطُقة حوض النيل خطراً داهماً يمر بالمنطًقة. وذلك نتيجة الأزمة الناجمة عن فشل الوصول لاتفاق طوال عشر سنوات من المفاوضات حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة الأثيوبي بما لا يؤثر بصورة كبيرة على دولتي المصب مصر والسودان .

السدّ نفسه لم يكُن المشكَلة؛ إلّا أنّ المشكلة تكمن في  رغبة مصر والسودان بتبادل المعلومات والبيانات مع أثيوبيا حول تشغيل السد، خاصة أنّه يبعد 15 كم2 فقط عن الحدود السودانية. بمعنى أنه لو قدّر الله أن كان هناك مشكلة في أمان السد ذات السعة التخزينية الكبيرة "74 مليار متر مكعب"، فإن المتضرر الأكبر هو السودان. أمّا أثيوبيا فلن تتضرر إلّا بمقدار 15 كم2 وهي المسافة الفاصلة بينها وبين الحدود السودانية .

وفي نفس الوقت تخشى مصر أن يكون هذا السد مقدمة لسدود أخرى تحجب حصة مصر التاريخية عن مياه النيل بناءً على اتفاقيات وقّعت عليها أثيوبيا. خاصة اتفاقية عام 1929 التي وقعتها أثيوبيا المستقلة مع بريطانيا نيابة عن مستعمراتها في تلك الفترة مصر والسودان. واتفاقية عام 1959 المكملة لها التي حددت بالتفصيل حصة كل دولة من مياه النيل.

في حين ترفض أثيوبيا تبادل المعلومات حول السد وتعتبره من أعمال السيادة الوطنية، وترفض التوقيع على اتفاق قانوني ملزم بحجة عدم الحجر على الأجيال القادمة على الرغم من توقيعها على اتفاقية عنتيبي عام 2010 التي لم توقع عليها مصر والسودان!

تعتبر أثيوبيا أنه طالما أنّ النيل ينبع من أراضيها، فهو هبة الله لها ومن حقها التصرف فيه كما تشاء. وعلى ذات المنوال تعتبر دولتي المصب مصر والسودان أن سريان النهر في مجراه الطبيعي هو هبة الله لهما. فلو كل دولة حول العالم ينبع نهر من أراضيها  تبنت المنطق الأثيوبي لمات أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية عطشاً وجف النبات ونفق الحيوان!

الوضع الآن يزداد تعقيداً خاصة مع تمسك أثيوبيا بالمضي قدماً بالملء الثاني للسد في يوليو القادم،  وإعلان مصر منتصف شهر أبريل موعد نهائي لانتهاء المفاوضات، وإعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بصورة مباشرة أن كل خيارات مصر مطروحة في حالة المساس بحصتها التاريخية من مياه النيل.

صاحب ذلك تحرُكات على ضِفاف الوادي من جميع الأطراف حيث زار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نهاية شهر نوفمبر الماضي دولة جنوب السودان في زيارة تاريخية، كأول رئيس مصري. كما زار السودان الشهر الماضي قبل أن يزور رئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك القاهرة في نفس الشهر وتنفيذ مناورات عسكرية مصرية سودانية مشتركة حَملت اسم "نسور النيل2" . في المقابل تنشط أثيوبيا دبلوماسياً في عمق القارة الافريقية. ومؤخراً اصطحب رئيس الوزراء الأثيوبي أبي أحمد شريكه في الحرب على إقليم تيجراي الرّئيس الأريتري أسياسي أفورقي في زيارة لجنوب السودان.

الأزمة الآن ملخصها أن أثيوبيا ترفض الاعتراف بجميع الاتفاقيات السابقة التي وقعتها  أعوام 1902,1929, 1959 وتصفها بأنها اتفاقيات وُقعت في حقبة استعمارية! وترفض مصر المساس بما تسميه حصتها التاريخية في المياه التي حددتها اتفاقية عام 1959 مع أثيوبيا والسودان وهي تعادل 55 مليار متر مكعب. وفي الوقت نفسه ترفض أثيوبيا جميع الوساطات الدولية أو الذهاب للتحكيم الدولي وتتمسك فقط بوساطة الاتحاد الافريقي فقط. وذلك للأسف الشديد لضعفه وعجزه عن اتخاذ قرار أو اقتراح حلول مما يساعدها في تمرير أجندتها بالمماطلة والتسويف وفرض الأمر الواقع على دولتي المصب مصر والسودان .

الوضع الآن شديد الخطورة وهو ما تستشعره جميع دول حوض النيل.  ما حدا بدولة جنوب السودان إلى الاستعداد لتقديم مبادرة تدرسها. فدولة جنوب السودان لها مصالح وعلاقات وثيقة مع جميع الدول المتنازعة وبالتأكيد يهمها الاستقرار في الإقليم وأن لا تخسر علاقتها بأي دولة .

وفي محاولة أخيرة بائسة دعى الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسيكيدى ورئيس الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية الدول الثلاثة مطلع هذا الشهر لاجتماع عاجل على مستوى وزراء الخارجية والري  في العاصمة الكونغولية كينشاسا ولكنه أخفق كما هو متوقع . فالأمور  وصلت إلى ما يشبه حائط صد بين الدول الثلاث بعد ان فشلت جميع المحاولات لتقريب وجهات النظر. ما يُنذر بنزاع عسكري في الإقليم حذر منه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لا تهديدا وإنما وعياً بخطورة الأزمة. فانخراط دولة بحجم مصر وجيشها المُصنف عالمياً في نزاع عسكري في المنطقة سوف يزلزل المنطقة بأكملها كما قال الرئيس المصري نفسه. ولن يكون الأمر مجرد حروب ميليشيات اعتادت عليها بعض الدول الأفريقية .

عندما حذرت مصر بصورة غير مباشرة تركيا من عدم تجاوز خط سرت الجفرة في ليبيا بما أسمته "الخط الأحمر بالنسبة لمصر" لم تجرؤ تركيا على تخطيه على الرغم من كونها قوى إقليمية كبرى، وتمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم. كما أنها دولة متغطرسة يصفها البعض بالبربرية نظراً لما تفعله في سوريا والعراق.  ولكنها في نفس الوقت دولة ذات عقل رشيد وتمتلك أجهزة إعلامية واستخباراتية تستطيع أن توعيها قبل أن تنخرط في نزاع مع دولة بحجم مصر وهو ما لا يتوافر على ما يبدو لأثيوبيا. ما حملها على عدم أخذ تحذيرات القاهرة على محمل الجد ولم تكُف عن إطلاق التصريحات العنترية!

لا شك أن الحرب هي أسوء خيار وهي شئ قبيح كما وصفها الرئيس المصري وجميع الدول المنخرطة فيها ستخسر وستتعطل تنميتها التي استغرقت سنوات لتتحقق. لكن الحقيقة هي أن حصول أي نزاع عسكري ستكون فيه أثيوبيا هي الخاسر الأكبر. وسوف تخرج منه بصرف النظر عن النتيجة جريحة ومريضة وربما ستنحدر إلى حروب أهلية تمزقها إلى دويلات مشتتة.  وبدل  أن يتحول النيل الأزرق إلى مصدر للتعاون والنماء سيتحول إلى مصدر للصراع والتوتر ما  ليس في صالح أحد.

الحقيقة الأخرى أن مصر الآن دولة قوية جداً كما لم تكن من قبل. وتحقق معدلات اقتصادية مرتفعة جداً رغم جائحة كورونا. وتمتلك أقوى جيش في المنطقة بأكملها وهو ما يبدو فشلت أثيوبيا في تقدير قيمته بسبب  ضعف أجهزتها

الاستخباراتية. ما يجعلها من الممكن أن تتورط في صراع كهذا. صراع بين أشقاء بمعنى الكلمة لا بالشعارات، أشقاء طالما شربوا ونموا من نهر واحد، أشقاء أعمتهم المصالح الفردية الضيقة عن ما هو مشترك .